الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} استئناف لذكر غاية الطلاق الذي يملكه الزوج من امرأته، نشأ عن قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 228] وعن بعض ما يشير إليه قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة: 228] فإن الله تعالى أعلن أن للنساء حقاً كحق الرجال، وجعل للرجال درجة زائدة: منها أن لهم حق الطلاق، ولهم حق الرجعة لقوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228] ولما كان أمر العرب في الجاهلية جارياً على عدم تحديد نهاية الطلاق، كما سيأتي قريباً، ناسب أن يذكر عقب ذلك كله حكم تحديد الطلاق، إفادة للتشريع في هذا الباب ودفعاً لما قد يعلق أو علق بالأوهام في شأنه. روى مالك في جامع الطلاق من «الموطأ»: «عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك وإن طلقها ألفَ مرة فعمَد رجلٌ إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ثم قال والله لا آويك ولا تحلين أبداً فأنزل الله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فاستقبل الناس الطلاق جديداً من يومئذٍ من كان طلق منهم أو لم يطلق». وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قريباً منه. ورواه الحاكم في «مستدركه» إلى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال: والله لا تركتك لا أَيماً ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مراراً فأنزل الله تعالى: {الطلاق مرتان}، وفي ذلك روايات كثيرة تقارب هذه، وفي «سنن أبي داود»: باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث وأخرج حديث ابن عباس أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك ونزل {الطلاق مرتان}، فالآية على هذا إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية، وتحديد لحقوق البعولة في المراجعة. والتعريف في قوله (الطلاق) تعريف الجنس على ما هو المتبادر في تعريف المصادر وفي مساق التشريع، فإن التشريع يقصد بيان الحقائق الشرعية، نحو قوله: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] وقوله: {وإن عزموا الطلاق} [البقرة: 227] وهذا التعريف هو الذي أشار صاحب «الكشاف» إلى اختياره، فالمقصود هنا الطلاق الرجعي الذي سبق الكلام عليه آنفاً في قوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228] فإنه الطلاق الأصلي، وليس في أصل الشريعة طلاق بائن غير قابل للمراجعة لذاته، إلاّ الطلقة الواقعة ثالثة، بعد سبق طلقتين قبلها فإنها مبينة بعدُ وأما ما عداها من الطلاق البائن الثابت بالسنة، فبينونته لحق عارض كحق الزوجة فيما تعطيه من مالها في الخلع، ومثل الحق الشرعي في تطليق اللعان، لمظنة انتفاء حسن المعاشرة بعد أن تَلاعنا، ومثل حق المرأة في حكم الحاكم لها بالطلاق للإضرار بها، وحُذف وصف الطلاق، لأن السياق دال عليه، فصار التقدير: الطلاق الرجعي مرتان. وقد أخبر عن الطلاق بأنه مرتان، فعلم أن التقدير: حق الزوج في إيقاع التطليق الرجعي مرتان، فأما الطلقة الثالثة فليست برجعيّة. وقد دل على هذا قوله تعالى بعد ذِكر المرتين: {فإمساك بمعروف} وقوله بعدهُ: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230] الآية وقد روي مثل هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم روي أبو بكر بن أبي شيبة: " أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت قول الله تعالى: {الطلاق مرتان} فأين الثالثة فقال رسول الله عليه السلام: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " وسؤال الرجل عن الثالثة، يقتضي أن نهاية الثلاث كانت حكماً معروفاً إِما من السنة وإِما من بقية الآية، وإنما سأل عن وجه قوله (مرتان) ولما كان المراد بيان حكم جنس الطلاق، باعتبار حصوله من فاعله، وهو إنما يحصل من الأزواج كان لفظ الطلاق آيلاً إلى معنى التطليق، كما يؤول السلام إلى معنى التسليم. وقوله {مرتان}، تثنية مرة، والمرة في كلامهم الفعلة الواحدة من موصوفها أو مضافها، فهي لا تقع إلا جارية على حدث، بوصف ونحوه، أو بإضافة ونحوها، وتقع مفردة، ومثناة، ومجموعة، فتدل على عدم تكرر الفعل، أو تكرر فعله تكرراً واحداً، أو تكرره تكرراً متعدداً، قال تعالى: {سنعذبهم مرتين} [التوبة: 101] وتقول العرب «نهيتك غير مرة فلم تنته» أي مراراً، وليس لفظ المرة بمعنى الواحدة من الأشياء الأعيان، ألا ترى أنك تقول: أعطيتك درهماً مرتين، إذا أعطيته درهماً ثم درهما، فلا يفهم أنك أعطيته درهمين مقترنين، بخلاف قولك أعطيتك درهمين. فقوله تعالى: {الطلاق مرتان} يفيد أن الطلاق الرجعي شرع فيه حق التكرير إلى حد مرتين، مرة عقب مرة أخرى لا غير، فلا يتوهم منه في فهم أهل اللسان أن المراد: الطلاق لا يقع إلا طلقتين مقترنتين لا أكثر ولا أقل، ومن توهم ذلك فاحتاج إلى تأويل لدفعه فقد أبعد عن مجاري الاستعمال العربي، ولقد أكثر جماعة من متعاطي التفسير الاحتمالات في هذه الآية والتفريع عليها، مدفوعين بأفهام مولدة، ثم طبقوها على طرائق جدلية في الاحتجاج لاختلاف المذاهب في إثبات الطلاق البدعي أو نفيه، وهم في إرخائهم طِوَل القول ناكبون عن معاني الاستعمال، ومن المحققين من لم يفته المعنى ولم تف به عبارته كما وقع في «الكشاف». ويجوز أن يكون تعريف الطلاق تعريف العهد، والمعهود هو ما يستفاد من قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن إلى قوله وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة: 228] فيكون كالعهد في تعريف الذَّكَر في قوله تعالى: {وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران: 36] فإنه معهود مما استفيد من قوله: {إني نذرت لك ما في بطني} [آل عمران: 35]. وقوله: {فإمساك بمعروفٍ} جملة مفرعة على جملة {الطلاق مرتان} فيكون الفاء للتعقيب في مجرد الذكر، لا في وجود الحكم. و(إمساك) خبر مبتدأ محذوف تقديره فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح على طريقة {فصبر جميل} [يوسف: 18] وإذ قد كان الإمساك والتسريح ممكنين عند كل مرة من مرتي الطلاق، كان المعنى فإمساك أو تسريح في كل مرة من المرتين، أي شأن الطلاق أن تكون كل مرة منه معقبة بإرجاع بمعروف أو ترك بإحسان، أي دون ضرار في كلتا الحالتين. وعليه فإمساك وتسريح مصدران، مراد منهما الحقيقة والاسم، دون إرادة نيابة عن الفعل، والمعنى أن المطلق على رأس أمره فإن كان راغباً في امرأته فشأنه إمساكها أي مراجعتها، وإن لم يكن راغباً فيها فشأنه ترك مراجعتها فتسرح، والمقصود من هذه الجملة إدماج الوصاية بالإحسان في حال المراجعة، وفي حال تركها، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، إبطالاً لأفعال أهل الجاهلية؛ إذ كانوا قد يراجعون المرأة بعد الطلاق ثم يطلقونها دَوَالَيْك، لتبقى زمناً طويلاً في حالة ترك إضراراً بها، إذ لم يكن الطلاق عندهم منتهياً إلى عدد لا يملك بعده المراجعة، وفي هذا تمهيد لما يرد بعده من قوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً الآية. ويجوز أن يكون إمساك وتسريح مصدرين جعلا بدلين من فعليهما، على طريقة المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله، وأصلهما النصب، ثم عدل عن النصب إلى الرفع لإفادة معنى الدوام، كما عدل عن النصب إلى الرفع في قوله تعالى: {قال سلامٌ} [هود: 69] وقد مضى أول سورة الفاتحة، فيكون مفيداً معنى الأمر بالنيابة عن فعله، ومفيداً الدوام بإيراد المصدرين مرفوعين، والتقدير فأمسكوا أو سرحوا. فتبين أن الطلاق حدد بمرتين، قابلة كل منهما للإمساك بعدها، والتسريح بإحسان توسعة على الناس ليرتأوا بعد الطلاق ما يليق بحالهم وحال نسائهم، فلعلهم تعرض لهم ندامة بعد ذوق الفراق ويحسوا ما قد يغفلون عن عواقبه حين إنشاء الطلاق، عن غضب أو عن ملالة، كما قال تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [الطلاق: 1] وقوله: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزواً} [البقرة: 231] وليس ذلك ليتخذوه ذريعة للإضرار بالنساء كما كانوا يفعلون قبل الإسلام. وقد ظهر من هذا أن المقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطْلَقين وأما تقييد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، فهو إدماج لوصية أخرى في كلتا الحالتين، إدماجاً للإرشاد في أثناء التشريع. وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم، المرغب فيه في نظر الشرع. والإمساك حقيقته قبض اليد على شيء مخافة أن يسقط أو يتفلت، وهو هنا استعارة لدوام المعاشرة. والتسريح ضد الإمساك في معنييه الحقيقي والمجازي، وهو مستعار هنا لإبطال سبب المعاشرة بعد الطلاق، وهو سبب الرجعة ثم استعارة ذلك الإبطال للمفارقة فهو مجاز بمرتبتين. والمعروف هنا هو ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام. وهو يناسب الإمساك لأنه يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان معاشرة، وغير ذلك، فهو أعم من الإحسان. وأما التسريح فهو فراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن والبذل بالمتعة، كما قال تعالى: {فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً} [الأحزاب: 49] وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمنعونهن من حليهن ورياشهن، ويكثرون الطعن فيهن قال ابن عرفة في «تفسيره»: «فإن قلت هلا قيل فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف قلت عادتهم يجيبون بأن المعروف أخف من الإحسان إذ المعروف حسن العشرة وإعطاء حقوق الزوجية، والإحسان ألا يظلمها من حقها فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن المعاشرة فجعل المعروف مع الإمساك المقتضي دوام العصمة، إذ لا يضر تكرره وجعل الإحسان الشاق مع التسريح الذي لا يتكرر». وقد أخذ قوم من الآية منع الجمع بين الطلاق الثلاث في كلمة، بناء على أن المقصود من قوله {مرتان} التفريق وسنذكر ذلك عند قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} [البقرة: 230] الآية. {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ}. يجوز أن تكون الواو اعتراضية، فهو اعتراض بين المتعاطفين، وهما قوله: {فإمساك} وقوله {فإن طلقها} ويجوز أن تكون معطوفة على {أو تسريح بإحسان} لأن من إحسان التسريح ألا يأخذ المسرح وهو المطلق عوضاً عن الطلاق، وهذه مناسبة مجئ هذا الاعتراض، وهو تفنن بديع في جمع التشريعات والخطاب للأمة، ليأخذ منه كل أفرادها ما يختص به، فالزوج يقف عن أخذ المال، وولي الأمر يحكم بعدم لزومه، وولي الزوجة أو كبير قبيلة الزوج يسعى ويأمر وينهى (وقد كان شأن العرب أن يلي هذه الأمور ذوو الرأي من قرابة الجانبين) وبقية الأمة تأمر بالامتثال لذلك، وهذا شأن خطابات القرآن في التشريع كقوله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} إلى قوله: {وارزقوهم فيها} [النساء: 5] وإليه أشار صاحب «الكشاف». وقال ابن عطية والقرطبي وصاحب «الكشاف»: الخطاب في قوله: {ولا يحل لكم} للأزواج بقرينة قوله {أن تأخذوا} وقوله: {أتيتموهن} والخطاب في قوله: {فإن خفتم ألا تقيما حدود الله} للحكام، لأنه لو كان للأزواج لقيل: فإن خفتم ألا تقيموا أو ألا تقيما، قال في «الكشاف»: «ونحو ذلك غير عزيز في القرآن» اه يعني لظهور مرجع كل ضمير من قرائن المقام ونظره في «الكشاف» بقوله تعالى في سورة الصف (13) {وبشر المؤمنين} على رأي صاحب الكشاف}، إذ جعله معطوفاً على {تؤمنون بالله ورسوله} إلخ لأنه في معنى آمنوا وجاهدوا أي فيكون معطوفاً على الخطابات العامة للأمة، وإن كان التبشير خاصاً به الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لا يتأتى إلا منه. وأظهر من تنظير صاحب «الكشاف» أن تنظره بقوله تعالى فيما يأتي: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} [البقرة: 232] إذ خوطب فيه المطلّق والعاضل، وهما متغايران. والضمير المؤنث في {أتيتموهن} راجع إلى {المطلقات}، المفهوم من قوله: {الطلاق مرتان} لأن الجنس يقتضي عدداً من المطلقين والمطلقات، وجوز في «الكشاف» أن يكون الخطاب كله للحكام وتأول قوله: {أن تأخذوا}. وقوله: {مما أتيتموهن} بأن إسناد الأخذ والإتيان للحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء، ورجحه البيضاوي بسلامته من تشويش الضمائر بدون نكتة التفات ووهنه صاحب «الكشاف» وغيره بأن الخلع قد يقع بدون ترافع، فما آتاه الأزواج لأزواجهم من المهور لم يكن أخذه على يد الحكام فبطل هذا الوجه، ومعنى لا يحل لا يجوز ولا يسمح به، واستعمال الحل والحرمة في هذا المعنى وضده قديم في العربية، قال عنترة: يا شاة ما قنص لمن حلت له *** حرمت على وليتها لم تحرم وقال كعب: إذا يساور قرناً لا يحل له *** أن يترك القرن إلا وهو مجدول وجيء بقوله: {شيئاً} لأنه من النكرات المتوغلة في الإبهام، تحذيراً من أخذ أقل قليل بخلاف ما لو قال مالاً أو نحوه، وهذا الموقع من محاسن مواقع كلمة شيء التي أشار إليها الشيخ في «دلائل الإعجاز». وقد تقدم بسط ذلك عند قوله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} [البقرة: 155]. وقوله: {إلا أن يخافا} قرأه الجمهور بفتح ياء الغيبة، فالفعل مسند للفاعل، والضمير عائد إلى المتخالعين المفهومين من قوله: {أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً} وكذلك ضمير {يخافا ألا يقيما} وضمير {فلا جناح عليهما}، وأسند هذا الفعل لهما دون بقية الأمة لأنهما اللذان يعلمان شأنهما. وقرأ حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضم ياء الغائب والفعل مبني للنائب والضمير للمتخالعين؛ والفاعل محذوف هو ضمير المخاطبين؛ والتقدير: إلا أن تخافوهما ألا يقيما حدود الله. والخوف توقع حصول ما تكرهه النفس وهو ضد الأمن. ويطلق على أثره وهو السعي في مرضاة المخوف منه، وامتثال أوامره كقوله: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 175] وترادفه الخشية، لأن عدم إقامة حدود الله مما يخافه المؤمن، والخوف يتعدى إلى مفعول واحد، قال تعالى: {فلا تخافوهم. وقال الشاعر يهجو رجلاً من فَقْعَسَ أكَلَ كلبَه واسمه حبتر: يا حبتر لم أكلته لمه *** لو خافك اللَّه عليه حرمه وخرج ابن جني في شرح الحماسة عليه قول الأحوص فيها على أحد تأويلين: فإذا تزول تزول على متخمط *** تُخْشَى بوادره على الأقران وحذفت على في الآية لدخولها على أن المصدرية. وقد قال بعض المفسرين: إن الخوف هنا بمعنى الظن، يريد ظن المكروه؛ إذ الخوف لا يطلق إلا على حصول ظن المكروه وهو خوف بمعناه الأصلي. وإقامة حدود الله فسرها مالك رحمه الله بأنها حقوق الزوج وطاعته والبرِّ به، فإذا أضاعت المرأة تلك فقد خالفت حدود الله. وقوله: {فلا جناح عليهما فيما أفتدت به} رفع الإثم عليهما، ويدل على أن باذل الحرام لآخذه مشارك له في الإثم، وفي حديث ربا الفضل «الآخذ والمعطي في ذلك سواء» وضمير {أفتدت به} لجنس المخالعة، وقد تمحض المقام لأن يعاد الضمير إليها خاصة؛ لأن دفع المال منها فقط. وظاهر عموم قوله: {فيما أفتدت به} أنه يجوز حينئذ الخلع بما زاد على المهر وسيأتي الخلاف فيه. ولم يختلف علماء الأمة أن المراد بالآية أخذ العوض على الفراق، وإنما اختلفوا في هذا الفراق هل هو طلاق أو فسخ؟ فذهب الجمهور إلى أنه طلاق ولا يكون إلا بائناً؛ إذ لو لم يكن بائناً لما ظهرت الفائدة في بذل العوض، وبه قال عثمان وعلي وابن مسعود والحسن وعطاء وابن المسيب والزهري ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي والشعبي والنخعي ومجاهد ومكحول. وذهب فريق إلى أنه فسخ، وعليه ابن عباس وطاووس وعكرمة وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل. وكل من قال: إن الخلع لا يكون إلا بحكم الحاكم. واختلف قول الشافعي في ذلك، فقال مرة هو طلاق؛ وقال مرة ليس بطلاق، وبعضهم يحكي عن الشافعي أن الخلع ليس بطلاق إلا أن ينوي بالمخالفة الطلاق والصواب أنه طلاق لتقرر عصمة صحيحة، فإن أرادوا بالفسخ ما فيه من إبطال العصمة الأولى فما الطلاق كله إلا راجعاً إلى الفسوخ، وتظهر فائدة هذا الخلاف في الخلع الواقع بينهما بعد أن طلق الرجل طلقتين، فعند الجمهور طلقة الخلع ثالثة فلا تحل لمخالعها إلا بعد زوج، وعند ابن عباس وأحمد بن حنبل وإسحاق ومن وافقهم: لا تعد طلقة، ولهما أن يعقدا نكاحاً مستأنفاً. وقد تمسك بهذه الآية سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وزياد بن أبي سفيان، فقالوا: لا يكون الخلع إلا بحكم الحاكم لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله}. والجمهور على جواز إجراء الخلع بدون تخاصم، لأن الخطاب ليس صريحاً للحكام وقد صح من عمر وعثمان وابن عمر أنهم رأوا جوازه بدون حكم حاكم. والجمهور أيضاً على جواز أخذ العوض على الطلاق إن طابت به نفس المرأة، ولم يكن عن إضرار بها. وأجمعوا على أنه إن كان عن إضرار بهن فهو حرام عليه، فقال مالك إذا ثبت الإضرار يمضي الطلاق، ويرد عليها مالها. وقال أبو حنيفة: هو ماض ولكنه يأثم بناء على أصله في النهي، إذا كان لخارج عن ماهية المنهي عنه. وقال الزهري والنخعي وداود: لا يجوز إلا عند النشوز والشقاق. والحق أن الآية صريحة في تحريم أخذ العوض عن الطلاق إلا إذا خيف فساد المعاشرة بألا تحب المرأة زوجها، فإن الله أكد هذا الحكم إذ قال: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} لأن مفهوم الاستثناء قريب من الصريح في أنهما إن لم يخافا ذلك لا يحل الخلع، وأكده بقوله: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما أفتدت به} فإن مفهومه أنهما إن لم يخافا ذلك ثبت الجناح، ثم أكد ذلك كله بالنهي بقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها ثم بالوعيد بقوله: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} وقد بين ذلك كله قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميلة بنت أو أخت عبد الله بن أبي بن سلول، وبين زوجها ثابت بن قيس بن شماس؛ إذ قالت له يا رسول الله لا أنا ولا ثابت، أو لا يجمع رأسي ورأس ثابت شيء، والله ما أعتب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " أتردين عليه حديقته التي أصدقك " قالت «نعم وأزيده» زاد في رواية قال: " أما الزائد فلا " وأجاب الجمهور بأن الآية لم تذكر قوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} على وجه الشرط بل لأنه الغالب من أحوال الخلع، ألا يُرى قوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء: 4] هكذا أجاب المالكية كما في «أحكام ابن العربي»، و«تفسير القرطبي». وعندي أنه جواب باطل، ومتمسك بلا طائل، أما إنكار كون الوارد في هاته الآية شرطا، فهو تعسف وصرف للكلام عن وجهه، كيف وقد دل بثلاثة منطوقات وبمفهومين وذلك قوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً} فهذا نكرة في سياق النفي، أي لا يحل أخذ أقل شيء، وقوله: {إلا أن يخافا} ففيه منطوق ومفهوم، وقوله: {فإن خفتم} ففيه كذلك، ثم إن المفهوم الذي يجيء مجيء الغالب هو مفهوم القيود التوابع كالصفة والحال والغاية، دون ما لا يقع في الكلام إلا لقصد الاحتراز، كالاستثناء والشرط. وأما الاحتجاج للجواز بقوله: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً}، فمورده في عفو المرأة عن بعض الصداق، فإن ضمير {منه} عائد إلى الصدقات، لأن أول الآية {وأتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم} [النساء: 4] الآية فهو إرشاد لما يعرض في حال العصمة مما يزيد الألفة، فلا تعارض بين الآيتين ولو سلمنا التعارض لكان يجب على الناظر سلوك الجمع بين الآيتين أو الترجيح. واختلفوا في جواز أخذ الزائد على ما أصدقها المفارق، فقال طاووس وعطاء والأوزاعي وإسحاق وأحمد: لا يجوز أخذ الزائد، لأن الله تعالى خصه هنا بقوله: {مما أتيتموهن} واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجميلة لما قالت له: أرد عليه حديقته وأزيده «أما الزائد فلا» أخرجه الدارقطني عن ابن جريج. وقال الجمهور: يجوز أخذ الزائد لعموم قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما أفتدت به} واحتجوا بما رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن أخته كانت تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة، فوقع بينهما كلام فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها «أتردين عليه حديقته ويطلقك» قالت: نعم وأزيده، فقال لها «ردي عليه حديقته وزيديه» وبأن جميلة لما قالت له: وأزيده لم ينكر عليها. وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق ولم أر أحداً من أهل العلم يكره ذلك أي يحرمه، ولم يصح عنده ما روي «أما الزائد فلا» والحق أن الآية ظاهرة في تعظيم أمر أخذ العوض على الطلاق، وإنما رخصه الله تعالى إذا كانت الكراهية والنفرة من المرأة من مبدأ المعاشرة، دفعاً للأضرار عن الزوج في خسارة ما دفعه من الصداق الذي لم ينتفع منه بمنفعة؛ لأن الغالب أن الكراهية تقع في مبدأ المعاشرة لا بعد التعاشر. فقوله: {مما أتيتموهن} ظاهر في أن ذلك هو محل الرخصة، لكن الجمهور تأولوه بأنه هو الغالب فيما يجحف بالأزواج، وأنه لا يبطل عموم قوله: {فيما أفتدت} وقد أشار مالك بقوله: ليس من مكارم الأخلاق إلى أنه لا يراه موجباً للفساد والنهي؛ لأنه ليس مما يختل به ضروري أو حاجي، بل هو آيل إلى التحسينات، وقد مضى عمل المسلمين على جوازه. واختلفوا في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فالجمهور على أنها محكمة، وقال فريق: منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء (20) {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ونسبه القرطبي لبكر بن عبد الله المزني، وهو قول شاذ، ومورد آية النساء في الرجل يريد فراق امرأته، فيحرم عليه أن يفارقها، ثم يزيد فيأخذ منها مالاً، بخلاف آية البقرة فهي في إرادة المرأة فراق زوجها عن كراهية. تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون}. جملة {تلك حدود الله فلا تعتدوها} معترضة بين جملة {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً} وما اتصل بها، وبين الجملة المفرعة عليها وهي {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} الآية. ومناسبة الاعتراض ما جرى في الكلام الذي قبلها من منع أخذ العوض عن الطلاق، إلا في حالة الخوف من ألا يقيما حدود الله، وكانت حدود الله مبينة في الكتاب والسنة، فجيء بهذه الجملة المعترضة تبْيِيناً؛ لأن منع أخذ العوض على الطلاق هو من حدود الله. وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة، شبهت بالحدود التي هي الفواصل المجعولة بين أملاك الناس، لأن الأحكام الشرعية، تفصل بين الحلال والحرام، والحق والباطل وتفصل بين ما كان عليه الناس قبل الإسلام، وما هم عليه بعده. والإقامة في الحقيقة الإظهار والإيجاد، يقال: أقام حداً لأرضه، وهي هنا استعارة للعمل بالشرع تبعاً لاستعارة الحدود للأحكام الشرعية، وكذلك إطلاق الاعتداء الذي هو تجاوز الحد على مخالفة حكم الشرع، هو استعارة تابعة لتشبيه الحكم بالحد. وجملة: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} تذييل وأفادت جملة {فأولئك هم الظالمون} حصراً وهو حصر حقيقي، إذ ما من ظالم إلا وهو متعد لحدود الله، فظهر حصر حال المتعدي حدود الله في أنه ظالم. واسم الإشارة من قوله: {فأولئك هم الظالمون} مقصود منه تمييز المشار إليه، أكمل تمييز، وهو من يتعدى حدود الله، اهتماماً بإيقاع وصف الظالمين عليهم. وأطلق فعل {يتعد} على معنى يخالف حكم الله ترشيحاً لاستعارة الحدود لأحكام الله، وهو مع كونه ترشيحاً مستعار لمخالفة أحكام الله؛ لأن مخالفة الأمر والنهي تشبه مجاوزة الحد في الاعتداء على صاحب الشيء المحدود. وفي الحديث: «ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه».
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} تفريع مرتب على قوله: {الطلاق مرتان فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] وما بينهما بمنزلة الاعتراض، على أن تقديمه يكسبه تأثيراً في تفريع هذا على جميع ما تقدم؛ لأنه قد علم من مجموع ذلك أن بعد المرتين تخييراً بني المراجعة وعدمها، فرتب على تقدير المراجعة المعبر عنها بالإمساك {فإن طلقها} وهو يدل بطريق الاقتضاء على مقدر أي فإن راجعها فطلقها لبيان حكم الطلقة الثالثة. وقد تهيأ السامع لتلقي هذا الحكم من قوله: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] إذ علم أن ذلك بيان لآخر عدد في الرجعي وأن ما بعده بتات، فذكر قوله: {فإن طلقها} زيادة في البيان، وتمهيد لقوله: {فلا تحل له من بعد} إلخ فالفاء إما عاطفة لجملة {فإن طلقها} على جملة {فإمساك} [البقرة: 229] باعتبار ما فيها من قوله {فإمساك}، إن كان المراد من الإمساك المراجعة ومن التسريح عدمها، أي فإن أمسك المطلق أي راجع ثم طلقها، فلا تحل له من بعد، وهذا هو الظاهر، وإما فصيحة لبيان قوله: {أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]، إن كان المراد من التسريح إحداث الطلاق، أي فإن ازداد بعد المراجعة فسرح فلا تحل له من بعد، وإعادة هذا على هذا الوجه ليرتب عليه تحريم المراجعة إلا بعد زوج، تصريحاً بما فهم من قوله: {الطلاق مرتان} ويكون التعبير بالطلاق هنا دون التسريح للبيان وللتفنن على الوجهين المتقدمين، ولا يعوزك توزيعه عليهما، والضمير المستتر راجع للمطلق المستفاد من قوله: {الطلاق مرتان} والضمير المنصوب راجع للمطلقة المستفادة من الطلاق أيضاً، كما تقدم في قوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229]. والآية بيان لنهاية حق المراجعة صراحة، وهي إما إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية وتشريع إسلامي جديد، وإما نسخ لما تقرر أول الإسلام إذا صح ما رواه أبو داود في «سننه»، في باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، عن ابن عباس «أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك ونزل {الطلاق مرتان}. ولا يصح بحال عطف قوله: {فإن طلقها} على جملة {ولا يحل لكم أن تأخذوا} [البقرة: 229]، ولا صدق الضميرين على ما صدقت عليه ضمائر {إلا أن يخافا ألا يقيما}، و{فلا جناح عليهما} لعدم صحة تعلق حكم قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} بما تعلق به حكم قوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا} [البقرة: 229] إلخ إذ لا يصح تفريع الطلاق الذي لا تحل بعده المرأة على وقوع الخلع، إذ ليس ذلك من أحكام الإسلام في قول أحد، فمن العجيب ما وقع في «شرح الخطابي على سنن أبي داود»: أن ابن عباس احتج لكون الخلع فسخاً بأن الله ذكر الخلع ثم أعقبه بقوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} الآية قال: " فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً " ولا أحسب هذا يصح عن ابن عباس لعدم جريه على معاني الاستعمال العربي. وقوله: {فلا تحل له} أي تحرم عليه وذكر قوله: {من بعد} أي من بعد ثلاث تطليقات تسجيلاً على المطلق، وإيماء إلى علة التحريم، وهي تهاون المطلق بشأن امرأته، واستخفافه بحق المعاشرة، حتى جعلها لعبة تقلبها عواصف غضبه وحماقته، فلما ذكر لهم قوله {من بعد} علم المطلقون أنهم لم يكونوا محقين في أحوالهم التي كانوا عليها في الجاهلية. والمراد من قوله: {تنكح زوجاً غيره} أن تعقد على زوج آخر، لأن لفظ النكاح في كلام العرب لا معنى له إلا العقد بين الزوجين، ولم أر لهم إطلاقاً آخر فيه لا حقيقة ولا مجازاً، وأياً ما كان إطلاقه في الكلام فالمراد في هاته الآية العقد بدليل إسناده إلى المرأة، فإن المعنى الذي ادعى المدعون أنه من معاني النكاح بالاشتراك والمجاز أعني المسيس، لا يسند في كلام العرب للمرأة أصلاً، وهذه نكتة غفلوا عنها في المقام. وحكمة هذا التشريع العظيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم، وجعلهن لُعباً في بيوتهم، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة، والثانية تجربة، والثالثة فراقاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر: «فكانت الأولى من موسى نسياناً والثانية شرطاً والثالثة عمداً فلذلك قال له الخضر في الثالث {هذا فراق بيني وبينك} [الكهف: 78]. وقد رتب الله على الطلقة الثالثة حكمين وهما سلب الزوج حق الرجعة، بمجرد الطلاق، وسلب المرأة حق الرضا بالرجوع إليه إلا بعد زوج، واشتراط التزوج بزوج ثان بعد ذلك لقصد تحذير الأزواج من المسارعة بالطلقة الثالثة، إلا بعد التأمل والتريث، الذي لا يبقى بعده رجاء في حسن المعاشرة، للعلم بحرمة العود إلا بعد زوج، فهو عقاب للأزواج المستخفين بحقوق المرأة، إذا تكرر منهم ذلك ثلاثاً، بعقوبة ترجع إلى إيلام الوجدان، لما ارتكز في النفوس من شدة النفرة من اقتران امرأته برجل آخر، وينشده حال المرأة قول ابن الزَّبير: وفي الناس إن رثَّتْ حِبالك وَاصل *** وفي الأرض عن دار القِلَى متحول وفي الطيبي قال الزجاج: «إنما جعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل فحرم عليهما التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا وأن يثبتوا» وقد علم السامعون أن اشتراط نكاح زوج آخر هو تربية للمطلقين، فلم يخطر ببال أحد إلا أن يكون المراد من النكاح في الآية حقيقته وهي العقد، إلا أن العقد لما كان وسيلة لما يقصد له في غالب الأحوال من البناء وما بعده، كان العقد الذي لا يعقبه وطء العاقد لزوجه غير معتد به فيما قصد منه، ولا يعبأ المطلق الموقع الثلاث بمجرد عقد زوج آخر لم يمس فيه المرأة، ولذلك لما طلق رفاعة بن سموأل القرظي زوجه تميمة ابنة وهب طلقة صادفت أخرى الثلاث، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبير القرظي، جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: «يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما معه مثل هدبة هذا الثوب» وأشارت إلى هدب ثوب لها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة " قالت «نعم» قال " لا، حتى تذوقي عسيلته " الحديث، فدل سؤالها على أنها تتوقع عدم الاعتداد بنكاح ابن الزبير في تحليل من بتها، لعدم حصول المقصود من النكاية والتربية بالمطلق، فاتفق علماء الإسلام على أن النكاح الذي يحل المبتوتة هو دخول الزوج الثاني بالمرأة ومسيسه لها، ولا أحسب دليلهم في ذلك إلا الرجوع إلى مقصد الشريعة، الذي علمه سائر من فهم هذا الكلام العربي الفصيح، فلا حاجة بنا إلى متح دلاء الاستدلال بأن هذا من لفظ النكاح المراد به في خصوص هذه الآية المسيسُ أو هو من حديث رفاعة، حتى يكون من تقييد الكتاب بخبر الواحد، أو هو من الزيادة على النص حتى يجئ فيه الخلاف في أنها نسخ أم لا، وفي أن نسخ الكتاب بخبر الواحد يجوز أم لا، كل ذلك دخول فيما لا طائل تحت تطويل تقريره بل حسبنا إجماع الصحابة وأهل اللسان على فهم هذا المقصد من لفظ القرآن، ولم يشذ عن ذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه قال: يحل المبتوتة مجرد العقد على زوج ثان، وهو شذوذ ينافي المقصود؛ إذ أية فائدة تحصل من العقد، إن هو إلا تعب للعاقدين، والولي، والشهود إلا أن يجعل الحكم منوطاً بالعقد، باعتبار ما يحصل بعده غالباً، فإذا تخلف ما يحصل بعده اغتفر، من باب التعليل بالمظنة، ولم يتابعه عليه أحد معروف، ونسبه النحاس لسعيد بن جبير، وأحسب ذلك سهواً منه واشتباهاً، وقد أمر الله بهذا الحكم، مرتباً على حصول الطلاق الثالث بعد طلقتين تقدمتاه فوجب امتثاله وعلمت حكمته فلا شك في أن يقتصر به على مورده، ولا يتعدى حكمه ذلك إلى كل طلاق عبر فيه المطلق بلفظ الثلاث تغليظاً، أو تأكيداً، أو كذباً لأن ذلك ليس طلاقاً بعد طلاقين، ولا تتحقق فيه حكمة التأديب على سوء الصنيع، وما المتلفظ بالثلاث في طلاقه الأول إلا كغير المتلفظ بها في كون طلقته الأولى، لا تصير ثانية، وغاية ما اكتسبه مقاله أنه عد في الحمقى أو الكذابين، فلا يعاقب على ذلك بالتفريق بينه وبين زوجه، وعلى هذا الحكم استمر العمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر، كما ورد في كتب الصحيح: «الموطأ» وما بعده، عن ابن عباس رضي الله عنه، وقد ورد في بعض الآثار رواية حديث ابن عمر حين طلق امرأته في الحيض أنه طلقها ثلاثاً في كلمة، وورد حديث ركانة بن عبد يزيد المطلبي، أنه طلق امرأته ثلاثاً في كلمة واحدة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إنما ملكك الله واحدة فأمره أن يراجعها. ثم إن عمر بن الخطاب في السنة الثالثة من خلافته حدثت حوادث من الطلاق بلفظ الثلاث في كلمة واحدة فقال: أرى الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم. وقد اختلف علماء الإسلام فيما يلزم من تلفظ بطلاق الثلاث في طلقة ليست ثالثة، فقال الجمهور: يلزمه الثلاث أخذاً بما قضى به عمر بن الخطاب وتأيد قضاؤه بسكوت الصحابة لم يغيروا عليه فهو إجماع سكوتي، وبناء على تشبيه الطلاق بالنذور والأيمان، يلزم المكلف فيها ما التزمه، ولا خلاف في أن عمر بن الخطاب قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد، ولكنه قضى بذلك عن اجتهاد فهو مذهب له، ومذهب الصحابي لا يقوم حجة على غيره، وما أيدوه به من سكوت الصحابة لا دليل فيه؛ لأن الإجماع السكوتي ليس بحجة عند النحارير من الأئمة مثل الشافعي والباقلاني والغزالي والإمام الرازي، وخاصة أنه صدر من عمر بن الخطاب مصدر القضاء والزجر، فهو قضاء في مجال الاجتهاد لا يجب على أحد تغييره، ولكن القضاء جزئي لا يلزم اطراد العمل به، وتصرف الإمام بتحجير المباح لمصلحة مجال للنظر، فهذا ليس من الإجماع الذي لا تجوز مخالفته. وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام ومحمد بن إسحاق وحجاج بن أرطاة وطاووس والظاهرية وجماعة من مالكية الأندلس: منهم محمد بن زنباع، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني، فقيه عصره بقرطبة، وأصبغ بن الحباب من فقهاء قرطبة، وأحمد بن مغيث الطليطلي الفقيه الجليل، وقال ابن تيمية من الحنابلة: إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة وهو الأرجح من جهة النظر والأثر. واحتجوا بحجج كثيرة أولاها وأعظمها هذه الآية فإن الله تعالى جعل الطلاق مرتين ثم ثالثة، ورتب حرمة العود على حصول الثالثة بالفعل لا بالقول، فإذا قال الرجل لامرأته: هي طالق طلاقاً ولم تكن تلك الطلقة ثالثة بالفعل والتكرر كذب في وصفها بأنها ثلاث، وإنما هي واحدة أو ثانية فكيف يقدم على تحريم عودها إليه والله تعالى لم يحرم عليه ذلك، قال ابن عباس: «وهل هو إلا كمن قال: قرأت سورة البقرة ثلاث مرات وقد قرأها واحدة فإن قوله ثلاث مرات يكون كاذباً». الثانية أن الله تعالى قصد من تعدد الطلاق التوسعة على الناس؛ لأن المعاشر لا يدري تأثير مفارقة عشيره إياه، فإذا طلق الزوج امرأته يظهر له الندم وعدم الصبر على مفارقتها، فيختار الرجوع فلو جعل الطلقة الواحدة مانعة بمجرد اللفظ من الرجعة، تعطل المقصد الشرعي من إثبات حق الرجعة، قال ابن رشد الحفيد في «البداية» «وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سداً للذريعة ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود من قوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [الطلاق: 1]. الثالثة قال ابن مغيث: إن الله تعالى يقول: {أو تسريح بإحسان} وموقع الثلاث غير محسن، لأن فيها ترك توسعة الله تعالى، وقد يخرَّج هذا بقياس على غير مسألة في «المدونة»: من ذلك قول الإنسان: {مالي صدقة في المساكين} قال مالك يجزئه الثلث. الرابعة احتجوا بحديث ابن عباس في «الصحيحين» " كان طلاق الثلاث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة ". وأجاب عنه الجمهور بأن راويه طاووس وقد روى بقية أصحاب ابن عباس عنه أنه قال من طلق امرأته ثلاثاً فقد عصى ربه وبانت منه زوجه، وهذا يوهن رواية طاووس، فإن ابن عباس لا يخالف الصحابة إلى رأي نفسه، حتى قال ابن عبد البر رواية طاووس وهم وغلط، وعلى فرض صحتها، فالمراد أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث تطليقات وهو معنى قول عمر «إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة» فلو كان ذلك واقعاً في زمن الرسول وأبي بكر لما قال عمر إنهم استعجلوا ولا عابه عليهم، وهذا جواب ضعيف، قال أبو الوليد الباجي: الرواية عن طاووس بذلك صحيحة. وأقول: أما مخالفة ابن عباس لما رواه فلا يوهن الرواية كما تقرر في الأصول، ونحن نأخذ بروايته وليس علينا أن نأخذ برأيه، وأما ما تأولوه من أن المراد من الحديث أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الثلاث فهو تأويل غير صحيح ومناف لألفاظ الرواية ولقول عمر «فلو أمضيناه عليهم» فإن كان إمضاؤه عليهم سابقاً من عهد الرسول لم يبق معنى لقوله: «فلو أمضيناه عليهم» وإن لم يكن إمضاؤه سابقاً بل كان غير ماض حصل المقصود من الاستدلال. الخامسة ما رواه الدارقطني أن ركانة بن عبد يزيد المطلبي طلق زوجه ثلاثاً في كلمة واحدة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إنما هي واحدة أو إنما تلك واحدة فارتجعها. وأجاب عنه أنصار الجمهور بأنه حديث مضطرب؛ لأنه روي أن ركانة طلق، وفي رواية أن يزيد بن ركانة طلق وفي رواية طلق زوجه ثلاثاً وزاد في بعض الروايات أنه طلقها ثلاثاً وقال: أردت واحدة فاستحلفه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وهو جواب واهٍ لأنه سواء صحت الزيادة أم لم تصح فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالواحدة فيما فيه لفظ الثلاث، ولا قائل من الجمهور بالتوهية فالحديث حجة عليهم لا محالة إلا أن روايته ليست في مرتبة معتبرة من الصحة. السادسة ما رواه الدارقطني في حديث تطليق ابن عمر زوجه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنه زاد فيه أنه طلقها ثلاثاً ولا شك أن معناه ثلاثاً في كلمة، لأنها لو كانت طلقة صادفت آخر الثلاث لما جاز إرجاعها إليه، ووجه الدليل أنه لما أمره أن يردها فقد عدها عليه واحدة فقط، وهذا دليل ضعيف جداً لضعف الرواية ولكون مثل هذه الزيادة مما لا يغفل عنها رواة الحديث في كتب الصحيح ك«الموطأ» و«صحيح البخاري» و«مسلم». والحق أنه لا يقع إلا طلقة واحدة ولا يعتد بقول المطلق ثلاثاً. وذهب مقاتل وداود الظاهري في رواية عنه أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع طلاقاً بالمرة، واحتج بأن القرآن ذكر الطلاق المفرَّق ولم يذكر المجموع فلا يلزم لأنه غير مذكور في القرآن. ولو احتج لهما بأنه منهي عنه والمنهي عنه فاسد لكان قريباً، لولا أن الفساد لا يعتري الفسوخ، وهذا مذهب شاذ وباطل، وقد أجمع المسلمون على عدم العمل به، وكيف لا يقع طلاقاً وفيه لفظ الطلاق. وذهب ابن جبير وعطاء وابن دينار وجابر بن زيد إلى أن طلاق البكر ثلاثاً في كلمة يقع طلقة واحدة، لأنه قبل البناء بخلاف طلاق بالمبني بها وكأنَّ وجه قولهم فيه: وأن معنى الثلاث فيه كناية عن البينونة والمطلقة قبل البناء تبينها الواحدة. ووصف {زوجاً غيره} تحذير للأزواج من الطلقة الثالثة، لأنه بذكر المغايرة يتذكر أن زوجته ستصير لغيره كحديث الواعظ الذي اتعظ بقول الشاعر: اليومَ عندك دَلُّها وحديثُها *** وغداً لغيرك زندها والمعصم وأسند الرجعة إلى المتفارقين بصيغة المفاعلة لتوقفها على رضا الزوجة بعد البينونة ثم علق ذلك بقوله: {إن ظنا أن يقيما حدود الله} أي أن يسيرا في المستقبل على حسن المعاشرة وإلا فلا فائدة في إعادة الخصومات. و {حدود الله} هي أحكامه وشرائعه، شبهت بالحدود لأن المكلف لا يتجاوزها فكأنه يقف عندها. وحقيقة الحدود هي الفواصل بين الأرضين ونحوها وقد تقدم في قوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229] والإقامة استعارة لحفظ الأحكام تبعاً لاستعارة الحدود إلى الأحكام كقولهم: نَقَض فلان غزله، وأما قوله: {وتلك حدود الله يبينها} فالبيان صالح لمناسبة المعنى الحقيقي والمجازي؛ لأنّ إقامة الحدّ الفاصل فيه بيان للناظرين. والمراد {بقوم يعلمون}، الذين يفهمون الأحكام فهماً يهيئهم للعمل بها، وبإدراك مصالحها، ولا يتحيلون في فهمها. {وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الواو اعتراضية، والجملة معترضة بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى، وموقع هذه الجملة كموقع جملة {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229] المتقدمة آنفاً. و {وتلك حدود الله} تقدم الكلام عليها قريباً. وتبيين الحدود ذكرها للناس موضحة مفصلة معللة، ويتعلق قوله {لقوم يعلمون} بفعل {يبينها}، ووصف القوم بأنهم يعلمون صريح في التنويه بالذين يدركون ما في أحكام الله من المصالح، وهو تعريض بالمشركين الذين يعرضون عن اتّباع الإسلام. وإقحام كلمة (لقوم) للإِيذان بأن صفة العلم سجيتهم وملكة فيهم، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله لأيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164].
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} عطف على جملة: {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 230] الآية عطف حكم على حكم، وتشريع على تشريع، لقصد زيادة الوصاة بحسن المعاملة في الاجتماع والفرقة، وما تبع ذلك من التحذير الذي سيأتي بيانه. وقوله: {فبلغهن أجلهن} مؤذن بأن المراد: وإذا طلقتم النساء طلاقاً فيه أجل. والأجل هنا لما أضيف إلى ضمير النساء المطلقات علم أنه أجل معهود بالمضاف إليه، أعني أجل الانتظار وهو العدة، وهو التربص في الآية السابقة. وبلوغ الأجل: الوصول إليه، والمراد به هنا مشارفة الوصول إليه بإجماع العلماء؛ لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك والتسريح، وقد يطلق البلوغ على مشارفة الوصول ومقاربته، توسعاً أي مجازاً بالأوْل. وفي القاعدة الخامسة من الباب الثامن من «مغني اللبيب» أن العرب يعبرون بالفعل عن أمور: أحدها، وهو الكثير المتعارف عن حصول الفعل وهو الأصل. الثاني: عن مشارفته نحو {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} [البقرة: 240] أي يقاربون الوفاة، لأنه حينَ الوصية. الثالث: إرادته نحو {إذا قمتم إلى الصلوات فاغسلوا} [المائدة: 6]. الرابع: القدرة عليه نحو {وعداً علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104] أي قادرين. والأجل في كلام العرب يطلق على المدة التي يمهل إليها الشخص في حدوث حادث معين، ومنه قولهم: ضرب له أجلاً {أيما الأجلين قضيت} [القصص: 28]. والمراد بالأجل هنا آخر المدة، لأن قوله: {فبلغن} مؤذن بأنه وصول بعد مسير إليه، وأسند (بلغن) إلى النساء لأنهن اللاتي ينتظرن انقضاء الأجل، ليخرجن من حبس العدة، وإن كان الأجل للرجال والنساء معاً، للأوَّلين توسعة للمراجعة، وللأخيرات تحديداً للحِل للتزوج. وأضيف الأجل إلى ضمير النساء لهاته النكتة. والقول في الإمساك والتسريح مضى قريباً. وفي هذا الوجه تكرير الحكم المفاد بقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229] فأجيب عن هذا بما قاله الفخر: إن الآية السابقة أفادت التخيير بين الإمساك والتسريح في مدة العدة، وهذه أفادت ذلك التخيير في آخر أوقات العدة، تذكيراً بالإمساك وتحريضاً على تحصيله، ويستتبع هذا التذكير الإشارة إلى الترغيب في الإمساك، من جهة إعادة التخيير بعد تقدم ذكره، وذكر التسريح هنا مع الإمساك، ليظهر معنى التخيير بين أمرين وليتوسل بذلك إلى الإشارة إلى رغبة الشريعة في الأمساك وذلك بتقديمه في الذكر؛ إذ لو يذكر الأمران لما تأتى التقديم المؤذن بالترغيب وعندي أنه على هذا الوجه أعيد الحكم، وليبني عليه ما قصد من النهي عن الضرار وما تلا ذلك من التحذير والموعظة وذلك كله مما أبعد عن تذكره الجمل السابقة التي اقتضى الحال الاعتراض بها. وقوله: {أو سرحوهن بمعروف} قيد التسريح هنا بالمعروف، وقيد في قوله السالف {أو تسريح بإحسان}، بالإحسان للإشارة إلى أن الإحسان المذكور هنالك، هو عين المعروف الذي يعرض للتسريح، فلما تقدم ذكره لم يُحتج هنا إلى الفرق بين قيده وقيد الإمساك. أو لأن إعادة أحوال الإمساك والتسريح هنا ليبنى عليه النهي عن المضارة، والذي تخاف مضارته بمنزلة بعيدة عن أن يطلب منه الإحسان، فطلب منه الحق، وهو المعروف الذي عدم المضارة من فروعه، سواء في الإمساك أو في التسريح، ومضارة كل بما يناسبه. وقال ابن عرفة: «تقدم أن المعروف أخف من الإحسان فلما وقع الأمر في الآية الأخرى بتسريحهن مقارناً للإحسان، خيف أن يتوهم أن الأمر بالإحسان عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيهاً على أن الأمر للندب لا للوجوب». وقوله: {ولا تمسكوهن ضراراً} تصريح بمفهوم {فأمسكوهن بمعروف} إذ الضرار ضد المعروف، وكأن وجه عطفه مع استفادته من الأمر بضده التشويه بذكر هذا الضد لأنه أكثر أضداد المعروف يقصده الأزواج المخالفون لحكم الإمساك بالمعروف، مع ما فيه من التأكيد، ونكتته تقرير المعنى المراد في الذهن بطريقتين غايتهما واحدة وقال الفخر: نكتة عطف النهي على الأمر بالضد في الآية هي أن الأمر لا يقتضي التكرار بخلاف النهي، وهذه التفرقة بين الأمر والنهي غير مسلمة، وفيها نزاع في علم الأصول، ولكنه بناها على أن الفرق بين الأمر والنهي هو مقتضى اللغة. على أن هذا العطف إن قلنا: إن المعروف في الإمساك حيثما تحقق انتفى الضرار، وحيثما انتفى المعروف تحقق الضرار، فيصير الضرار مساوياً لنقيض المعروف، فلنا أن نجعل نكتة العطف حينئذٍ لتأكيد حكم الإمساك بالمعروف: بطريقي إثبات ونفي، كأنه قيل: (ولا تمسكوهن إلاّ بالمعروف)، كما في قول السموأل: تسيل على حد الظُّباتتِ نُفُوسنا *** وليستْ على غير الظُّبات تسيل والضرار مصدر ضارَّ، وأصل هذه الصيغة أن تدل على وقوع الفعل من الجانبين، مثل خاصم، وقد تستعمل في الدلالة على قوة الفعل مثل: عافاك الله، والظاهر أنها هنا مستعملة للمبالغة في الضر، تشنيعاً على من يقصده بأنه مفحش فيه. ونصب {ضراراً} على الحال أو المفعولية لأجله. وقوله: {لتعتدوا} جُرَّ باللام ولم يعطف بالفاء؛ لأن الجر باللام هو أصل التعليل، وحذف مفعول «تعتدوا» ليشمل الاعتداء عليهن وعلى أحكام الله تعالى، فتكون اللام مستعملة في التعليل والعاقبة. والاعتداء على أحكام الله لا يكون علة للمسلمين، فنزل منزلة العلة مجازاً في الحصول، تشنيعاً على المخالفين، فحرف اللام مستعمل في حقيقته ومجازه. وقوله {فقد ظلم نفسه} جعل ظلمهم نساءهم ظلماً لأنفسهم، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة واضطراب حال البيت وفوات المصالح بشغب الأذهان في المخاصمات. وظلم نفسه أيضاً بتعريضها لعقاب الله في الآخرة. {وَلاَ تتخذوا آيات الله هُزُوًا واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُم بِهِ واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ}. عطف هذا النهي على النهي في قوله: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} لزيادة التحذير من صنيعهم في تطويل العدة، لقصد المضارة، بأن في ذلك استهزاء بأحكام الله التي شرع فيها حق المراجعة، مريداً رحمة الناس، فيجب الحذر من أن يجعلوها هزءاً. وآيات الله هي ما في القرآن من شرائع المراجعة نحو قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] إلى قوله {وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} [البقرة: 230]. والهزء بضمتين مصدر هزأ به إذا سخر ولعب، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول، أي لا تتخذوها مستهزأ به، ولما كان المخاطب بهذا المؤمنين، وقد علم أنهم لم يكونوا بالذين يستهزئون بالآيات، تعين أن الهزء مراد به مجازه وهو الاستخفاف وعدم الرعاية، لأن المستخف بالشيء المهم يعد لاستخفافه به، مع العلم بأهميته، كالساخر واللاعب. وهو تحذير للناس من التوصل بأحكام الشريعة إلى ما يخالف مراد الله، ومقاصد شرعه، ومن هذا التوصل المنهي عنه، ما يسمى بالحيل الشرعية بمعنى أنها جارية على صور صحيحة الظاهر، بمقتضى حكم الشرع، كمن يهب ماله لزوجه ليلة الحول ليتخلص من وجوب زكاته، ومن أبعد الأوصاف عنها الوصف بالشرعية. فالمخاطبون بهذه الآيات محذرون أن يجعلوا حكم الله في العدة، الذي قصد منه انتظار الندامة وتذكر حسن المعاشرة، لعلهما يحملان المطلق على إمساك زوجته حرصاً على بقاء المودة والرحمة، فيغيروا ذلك ويجعلوه وسيلة إلى زيادة النكاية، وتفاقم الشر والعداوة. وفي «الموطأ» أن رجلاً قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مائة طلقة فقال له ابن عباس «بانت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزءاً» يريد أنه عمد إلى ما شرعه الله من عدد الطلاق، بحكمة توقع الندامة مرة أولى وثانية، فجعله سبب نكاية وتغليظ، حتى اعتقد أنه يضيق على نفسه المراجعة إذ جعله مائة. ثم إن الله تعالى بعد أن حذرهم دعاهم بالرغبة فقال: {واذكروا نعمت الله عليكم} فذكرهم بما أنعم عليهم بعد الجاهلية بالإسلام، الذي سماه نعمة كما سماه بذلك في قوله: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [آل عمران: 103] فكما أنعم عليكم بالإنسلاخ عن تلك الضلالة، فلا ترجعوا إليها بالتعاهد بعد الإسلام. وقوله: {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} معطوف على (نعمة)، وجملة {يعظكم به} حال ويجوز جعله مبتدأ؛ وجملة {يعظكم} خبراً، والكتاب: القرآن. والحكمة: العلم المستفاد من الشريعة، وهو العبرة بأحوال الأمم الماضية وإدراك مصالح الدين، وأسرار الشريعة، كما قال تعالى، بعد أن بين حكم الخمر والميسر {كذلك يبين الله لكم الأَيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} [البقرة: 219، 220] ومعنى إنزال الحكمة أنها كانت حاصلة من آيات القرآن كما ذكرنا، ومن الإيماء إلى العلل، ومما يحصل أثناء ممارسة الدين، وكل ذلك منزل من الله تعالى بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن فسر الحكمة بالسنة فقد فسرها ببعض دلائلها. والموعظة والوعظ: النصح والتذكير بما يلين القلوب، ويحذر الموعوظ. وقوله: {واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} تذكير بالتقوى وبمراعاة علمهم بأن الله عليم بكل شيء تنزيلاً لهم في حين مخالفتهم بأفعالهم لمقاصد الشريعة، منزلة من يجهل أن الله عليم، فإن العليم لا يخفى عليه شيء، وهو إذا علم مخالفتهم لا يحول بين عقابه وبينهم شيء، لأن هذا العليم قدير.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} المراد من هذه الآية مخاطبة أولياء النساء بألا يمنعوهن من مراجعة أزواجهن بعد أن أمر المفارقين بإمساكهن بمعروف ورغبهم في ذلك، إذ قد علم أن المرأة إذا رأت الرغبة من الرجل الذي كانت تألفه وتعاشره لم تلبث أن تقرن رغبته برغبتها، فإن المرأة سريعة الانفعال قريبة القلب، فإذا جاء منع فإنما يجيء من قبل الأولياء ولذلك لم يذكر الله ترغيب النساء في الرضا بمراجعة أزواجهن ونهى الأولياء عن منعهن من ذلك. وقد عرف من شأن الأولياء في الجاهلية وما قاربها، الأنفة من أصهارهم، عند حدوث الشقاق بينهم وبين ولاياهم، وربما رأوا الطلاق استخفافاً بأولياء المرأة وقلة اكتراث بهم، فحملتهم الحمية على قصد الانتقام منهم عند ما يرون منهم ندامة، ورغبة في المراجعة وقد روى في «الصحيح» أن البداح بن عاصم الأنصاري طلق زوجه جُميلا بالتصغير وقيل جُمْلا وقيل جميلة ابنة معقل بن يسار فلما انقضت عدتها، أراد مراجعتها، فقال له أبوها معقل بن يسار: «إنك طلقتها طلاقاً له الرجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إليَّ أتيتني تخطبها مع الخطاب، والله لا أنكحتكها أبداً» فنزلت هذه الآية، قال معقل «فكفرت عن يميني وأرجعتها إليه» وقال الواحدي: نزلت في جابر بن عبد الله كانت له ابنة عم طلقها زوجها وانقضت عدتها، ثم جاء يريد مراجعتها، وكانت راغبة فيه، فمنعه جابر من ذلك فنزلت. والمراد من أجلهن هو العدة، وهو يعضد أن ذلك هو المراد من نظيره في الآية السابقة، وعن الشافعي «دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين» فجعل البلوغ في الآية الأولى، بمعنى مشارفة بلوغ الأجل، وجعله هنا بمعنى انتهاء الأجل. فجملة {وإذا طلقتم النساء} عطف على {وإذا طلقتم النساء فبلغت أجلهن فأمسكوهن بمعروف} [البقرة: 231] الآية. والخطاب الواقع في قوله {طلقتم} و{تعضلوهن} ينبغي أن يحمل على أنه موجه إلى جهة واحدة دون اختلاف التوجه، فيكون موجهاً إلى جميع المسلمين، لأن كل واحد صالح لأن يقع منه الطلاق إن كان زوجاً، ويقع منه العضل إن كان ولياً، والقرينة ظاهرة على مثله فلا يكاد يخفى في استعمالهم، ولما كان المسند إليه أحد الفعلين، غير المسند إليه الفعل الآخر، إذ لا يكون الطلاق ممن يكون منه العضل ولا العكس، كان كل فريق يأخذ من الخطاب ما هو به جدير، فالمراد بقوله: {طلقتم} أوقعتم الطلاق، فهم الأزواج، وبقوله {فلا تعضلوهن} النهي عن صدور العضل، وهم أولياء النساء. وجعل في «الكشاف» الخطاب للناس عامة أي إذا وجد فيكم الطلاق وبلغ المطلقات أجلهن، فلا يقع منكم العضل ووجه تفسيره هذا بقوله: «لأنه إذا وجد العضل بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين». والعضل: المنع والحبس وعدم الانتقال، فمنه عضَّلت المرأة بالتشديد إذا عسرت ولادتها وعضَّلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج، والمعاضلة في الكلام: احتباس المعنى حتى لا يبدو من الألفاظ، وهو التعقيد، وشاع في كلام العرب في منع الولي مولاته من النكاح. وفي الشرع هو المنع بدون وجه صلاح، فالأب لا يعد عاضلاً برد كفء أو اثنين، وغير الأب يعد عاضلاً برد كفء واحد. وإسناد النكاح إلى النساء هنا لأنه هو المعضول عنه، والمراد بأزواجهن طالبو المراجعة بعد انقضاء العدة، وسماهن أزواجاً مجازاً باعتبار ما كان، لقرب تلك الحالة، وللإشارة إلى أن المنع ظلم؛ فإنهم كانوا أزواجاً لهن من قبل، فهم أحق بأن يُرَجَّعن إليهم. وقوله: {إذا تراضوا بينهم بالمعروف} شرط للنهي، لأن الولي إذا علم عدم التراضي بين الزوجين، ورأى أن المراجعة ستعود إلى دخل وفساد فله أن يمنع مولاته نصحاً لها، وفي هذا الشرط إيماء إلى علة النهي: وهي أن الولي لا يحق له منعها مع تراضي الزوجين بعود المعاشرة، إذ لا يكون الولي أدرى بميلها منها، على حد قولهم في المثل المشهور «رضي الخصمان ولم يرض القاضي». وفي الآية إشارة إلى اعتبار الولاية للمرأة في النكاح بناء على غالب الأحوال يومئذٍ؛ لأن جانب المرأة جانب ضعيف مطموع فيه، معصوم عن الامتهان، فلا يليق تركها تتولى مثل هذا الأمر بنفسها؛ لأنه ينافي نفاستها وضعفها، فقد يستخف بحقوقها الرجال، حرصاً على منافعهم وهي تضعف عن المعارضة. ووجه الإشارة: أن الله أشار إلى حقين: حق الولي بالنهي عن العضل؛ إذ لو لم يكن الأمر بيده لما نهي عن منعه، ولا يقال: نهي عن استعمال ما ليس بحق له لأنه لو كان كذلك لكان النهي عن البغي والعدوان كافياً، ولجيء بصيغة: ما يكون لكم ونحوها وحق المرأة في الرضا ولأجله أسند الله النكاح إلى ضمير النساء، ولم يقل: أن تُنكحوهن أزواجهن، وهذا مذهب مالك والشافعي وجمهور فقهاء الإسلام، وشذ أبو حنيفة في المشهور عنه فلم يشترط الولاية في النكاح، واحتج له الجصاص بأن الله أسند النكاح هنا للنساء وهو استدلال بعيد استعمال العرب في قولهم: نكحت المرأة، فإنه بمعنى تزوجت دون تفصيل بكيفية هذا التزوج لأنه لا خلاف في أن رضا المرأة بالزوج هو العقد المسمى بالنكاح، وإنما الخلاف في اشتراط مباشرة الولي لذلك دون جبر، وهذا لا ينافيه إسناد النكاح إليهن، أما ولاية الإجبار فليست من غرض هذه الآية؛ لأنها واردة في شأن الأيامى ولا جبر على أيم باتفاق العلماء. وقوله: {ذلك يوعظ به} إشارة إلى حكم النهي عن العضل، وإفراد الكاف مع اسم الإشارة مع أن المخاطب جماعة، رعياً لتناسي أصل وضعها من الخطاب إلى ما استعملت فيه من معنى بعد المشار إليه فقط، فإفرادها في أسماء الإشارة هو الأصل، وأما جمعها في قوله {ذلكم أزكى لكم} فتجديد لأصل وضعها. ومعنى أزكى وأطهر أنه أوفر للعرض وأقرب للخير، فأزكى دال على النماء والوفر، وذلك أنهم كانوا يعضلونهن حمية وحفاظاً على المروءة من لحاق ما فيه شائبة الحطيطة، فأعلمهم الله أن عدم العضل أوفر للعرض؛ لأن فيه سعياً إلى استبقاء الود بين العائلات التي تقاربت بالصهر والنسب؛ فإذا كان العضل إباية للضيم، فالإذن لهن بالمراجعة حلم وعفو ورفاء للحال وذلك أنفع من إباية الضيم. وأما قوله: {وأطهر} فهو معنى أنزه، أي إنه أقطع لأسباب العداوات والإحن والأحقاد بخلاف العضل الذي قصدتم منه قطع العود إلى الخصومة، وماذا تضر الخصومة في وقت قليل يعقبها رضا ما تضر الإحن الباقية والعداوات المتأصلة، والقلوب المحرَّقة. ولك أن تجعل {أزكى} بالمعنى الأول، ناظراً لأحوال الدنيا، وأطهر بمعنى فيه السلامة من الذنوب في الآخرة، فيكون أطهر مسلوب المفاضلة، جاء على صيغة التفضيل للمزاوجة مع قوله {أزكى}. وقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} تذييل وإزالة لاستغرابهم حين تلقى هذا الحكم، لمخالفته لعاداتهم القديمة، وما اعتقدوا نفعاً وصلاحاً وإباء على أعراضهم، فعلمهم الله أن ما أمرهم به ونهاهم عنه هو الحق، لأن الله يعلم النافع، وهم لا يعلمون إلاّ ظاهراً، فمفعول {يعلم} محذوف أي والله يعلم ما فيه كمال زكاتكم وطهارتكم؛ وأنتم لا تعلمون ذلك.
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)} انتقال من أحكام الطلاق والبينونة؛ فإنه لما نهى عن العضل، وكانت بعض المطلقات لهن أولاد في الرضاعة ويتعذر عليهن التزوج وهن مرضعات؛ لأن ذلك قد يضر بالأولاد، ويقلل رغبة الأزواج فيهن، كانت تلك الحالة مثار خلاف بين الآباء والأمهات، فلذلك ناسب التعرض لوجه الفصل بينهم في ذلك، فإن أمر الإرضاع مهم، لأن به حياة النسل، ولأن تنظيم أمره من أهم شؤون أحكام العائلة. وأعلم أن استخلاص معاني هذه الآية من أعقد ما عرض للمفسرين. فجملة {والوالدات يرضعن} معطوفة على جملة {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} [البقرة: 232] والمناسبة غير خفية. والوالدت عام لأنه جمع معرف باللام، وهو هنا مراد به خصوص الوالدات من المطلقات بقرينة سياق الآي التي قبلها من قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] ولذلك وصلت هذه الجملة بالعطف للدلالة على اتحاد السياق، فقوله: {والوالدات} معناه: والوالدات منهن، أي من المطلقات المتقدم الإخبار عنهن في الآي الماضية، أي المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم إلاّ بعد الفراق، ولا يقع في حالة العصمة؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة، وأنهن لا تمتنع منه من تمتنع إلاّ لسبب طلب التزوج بزوج جديد بعد فراق والد الرضيع؛ فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج منها؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة. وجملة {يرضعن} خبر مراد به التشريع، وإثبات حق الاستحقاق، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن؛ لأنه قد ذكر بعد أحكام المطلقات، ولأنه عقب بقوله {وإن أردتم أن تسترضعوا} فإن الضمير شامل للآباء والأمهات على وجه التغليب كما يأتي، فلا دلالة في الآية على إيجاب إرضاع الولد على أمه، ولكن تدل على أن ذلك حق لها، وقد صرح بذلك في سورة الطلاق بقوله {وإن تعاسرتم فسترضع له أُخرى} [الطلاق: 6] ولأنه عقب بقوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} وذلك أجر الرضاعة، والزوجة في العصمة ليس لها نفقة وكسوة لأجل الرضاعة، بل لأجل العصمة. وقوله: {أولادهن} صرح بالمفعول مع كونه معلوماً، إيماء إلى أحقية الوالدات بذلك وإلى ترغيبهن فيه؛ لأن في قوله: {أولادهن} تذكيراً لهن بداعي الحنان والشفقة، فعلى هذا التفسير وهو الظاهر من الآية والذي عليه جمهور السلف ليست الآية واردة إلاّ لبيان إرضاع المطلقات أولادهن، فإذا رامت المطلقة إرضاع ولدها فهي أولى به، سواء كانت بغير أجر أم طلبت أجر مثلها، ولذلك كان المشهور عن مالك: أن الأب إذا وجد من ترضع له غير الأم بدون أجر وبأقل من أجر المثل، لم يُجب إلى ذلك، كما سنبينه. ومن العلماء من تأول الوالدات على العموم، سواء كن في العصمة أو بعد الطلاق كما في القرطبي والبيضاوي، ويظهر من كلام ابن الفرس في «أحكام القرآن» أنّ هذا قول مالك. وقال ابن رشد في «البيان والتحصيل»: إن قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} ومحمول على عمومه في ذات الزوج وفي المطلقة مع عسر الأب، ولم ينسبه إلى مالك، ولذلك قال ابن عطية: قوله: {يرضعن} خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، والأمر على الندب والتخيير لبعضهن وتبعه البيضاوي، وفي هذا استعمال صيغة الأمر في القدر المشترك وهو مطلق الطلب ولا داعي إليه. والظاهر أن حكم إرضاع الأم ولدها في العصمة يستدل له بغير هذه الآية، ومما يدل على أنه ليس المراد الوالدات اللائي في العصمة قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن} الآية، فإن اللائي في العصمة لهن النفقة والكسوة بالأصالة. والحول في كلام العرب: العام، وهو مشتق من تحول دورة القمر أو الشمس في فلكه من مبدأ مصطلح عليه، إلى أن يرجع إلى السمت الذي ابتدأ منه، فتلك المدة التي ما بين المبدأ والمرجع تسمى حولاً. وحول العرب قمري وكذلك أقره الإسلام. ووصف الحولين بكاملين تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولاً وبعض الثاني؛ لأن إطلاق التثنية والجمع في الأزمان والأسنان، على بعض المدلول، إطلاق شائع عند العرب، فيقولون: هو ابن سنتين ويريدون سنة وبعض الثانية، كما مر في قوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197]. وقوله: {لمن أراد أن يتم الرضاعة}، قال في «الكشاف»: «بيان لمن توجه إليه الحكم كقوله: {هيت لك} [يوسف: 23]، فلك بيان للمُهَيَّت له أي هذا الحكم لمن أراد أن يتم الإرضاع» أي فهو خبر مبتدأ محذوف، كما أشار إليه، بتقدير هذا الحكمُ لمِن أراد. قال التفتازاني: «وقد يصرح بهذا المبتدأ في بعض التراكيب كقوله تعالى: {ذلك لمن خشى العنت منكم} [النساء: 25] ومَا صْدَقُ (مَنْ) هنا من يهمه ذلك: وهو الأب والأم ومن يقوم مقامهما من ولي الرضيع وحاضنه. والمعنى: أن هذا الحكم يستحقه من أراد إتمام الرضاعة، وأباه الآخر، فإن أرادا معاً عدم إتمام الرضاعة فذلك معلوم من قوله: {فإن أرادا فصالاً} الآية. وقد جعل الله الرضاع حولين رعياً لكونهما أقصى مدة يحتاج فيها الطفل للرضاع إذا عرض له ما اقتضى زيادة إرضاعه، فأما بعد الحولين فليس في نمائه ما يصلح له الرضاع بعدُ، ولما كان خلاف الأبوين في مدة الرضاع لا ينشأ إلاّ عن اختلاف النظر في حاجة مزاج الطفل إلى زيادة الرضاع، جعل الله القول لمن دعا إلى الزيادة، احتياطاً لحفظ الطفل. وقد كانت الأمم في عصور قلة التجربة وانعدام الأطباء، لا يهتدون إلى ما يقوم للطفل مقام الرضاع؛ لأنهم كانوا إذا فطموه أعطوه الطعام، فكانت أمزجة بعض الأطفال بحاجة إلى تطويل الرضاع، لعدم القدرة على هضم الطعام وهذه عوارض تختلف. وفي عصرنا أصبح الأطباء يعتاضون لبعض الصبيان بالإرضاع الصناعي، وهم مع ذلك مجمعون على أنه لا أصلح للصبي من لبن أمه، ما لم تكن بها عاهة أو كان اللبن غير مستوف الأجزاء التي بها تمام تغذية أجزاء بدن الطفل، ولأن الإرضاع الصناعي يحتاج إلى فرط حذر في سلامة اللبن من العفونة: في قوامه وإنائه. وبلاد العرب شديدة الحرارة في غالب السنة؛ ولم يكونوا يحسنون حفظ أطعمتهم من التعفن بالمكث، فربما كان فطام الأبناء في العام أو ما يقرب منه يجر مضار للرضعاء، وللأمزجة في ذلك تأثير أيضاً. وعن ابن عباس أن التقدير بالحولين للولد الذي يمكث في بطن أمه ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر، فرضاعه ثلاثة وعشرون شهراً، وهكذا بزيادة كل شهر في البطن ينقص شهر من مدة الرضاعة حتى يكون لمدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً؛ لقوله تعالى: {وحمله وفصله ثلاثون شهراً} [الأحقاف: 15]، وفي هذا القول منزع إلى تحكيم أحوال الأمزجة؛ لأنه بمقدار ما تنقص مدة مكثه في البطن، تنقص مدة نضج مزاجه. والجمهور على خلاف هذا وأن الحولين غاية لإرضاع كل مولود. وأخذوا من الآية أن الرضاع المعتبر هو ما كان في الحولين، وأن ما بعدهما لا حاجة إليه، فلذلك لا يجاب إليه طالبه. وعبر عن الوالد بالمولود له، إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم؛ لأن منافع الولد منجرة إليه، وهو لاحق به ومعتز به في القبيلة حسب مصطلح الأمم، فهو الأجدر بإعاشته، وتقويم وسائلها. والرزق: النفقة، والكسوة: اللباس، والمعروف: ما تعارفه أمثالهم وما لا يجحف بالأب. والمراد بالرزق والكسوة هنا ما تأخذه المرضع أجراً عن إرضاعها، من طعام ولباس لأنهم كانوا يجعلون للمراضع كسوة ونفقة، وكذلك غالب إجاراتهم؛ إذ لم يكن أكثر قبائل العرب أهل ذهب وفضة، بل كانوا يتعاملون بالأشياء، وكان الأجراء لا يرغبون في الدرهم والدينار، وإنما يطلبون كفاية ضروراتهم، وهي الطعام والكسوة، ولذلك أحال الله تقديرهما على المعروف عندهم من مراتب الناس وسعتهم، وعقبه بقوله: {لا تكلف نفس إلا وسعها}. وجمل: {لا تكلف نفس إلا وسعها} إلى قول: {ولا مولود له بولده} معترضات بين جملة {وعلى المولود} وجملة {وعلى الوارث} فموقع جملة لا تكلف نفس إلا وسعها تعليل لقوله {بالمعروف}، وموقع جملة {لا تضار وَالدة} إلى آخرها موقع التعليل أيضاً، وهو اعتراض يفيد أصولاً عظيمة للتشريع ونظام الاجتماع. والتكليف تفعيل بمعنى جعله ذا كلفة، والكلفة: المشقة، والتكلف: التعرض لما فيه مشقة، ويطلق التكليف على الأمر بفعل فيه كلفة، وهو اصطلاح شرعي جديد. والوسع، بتثليث الواو: الطاقة، وأصله من وسع الإناء الشيء إذا حواه ولم يبق منه شيء، وهو ضد ضاق عنه، والوسع هو ما يسعه الشيء فهو بمعنى المفعول، وأصله استعارة؛ لأن الزمخشري في «الأساس» ذكر هذا المعنى في المجاز، فكأنهم شبهوا تحمل النفس عملاً ذا مشقة باتساع الظرف للمحوي، لأنهم ما احتاجوا لإفادة ذلك إلاّ عند ما يتوهم الناظر أنه لا يسعه، فمن هنا استعير للشاق البالغ حد الطاقة. فالوسع إن كان بكسر الواو فهو فعل بمعنى مفعول كذبح، وإن كان بضمها فهو مصدر كالصلح والبرء صار بمعنى المفعول، وإن كان بفتحها فهو مصدر كذلك بمعنى المفعول كالخلق والدرس والتكليف بما فوق الطاقة منفي في الشريعة. وبني فعل تكلف للنائب ليحذف الفاعل، فيفيد حذفه عموم الفاعلين، كما يفيد وقوع نفس، وهو نكرة في سياق النفس، عموم المفعول الأول لفعل تكلف: وهو الأنفس المكلفة، وكما يفيد حذف المستثنى في قوله: {إلا وسعها} عموم المفعول الثاني لفعل تكلف، وهو الأحكام المكلف بها، أي لا يكلف أحد نفساً إلاّ وسعها، وذلك تشريع من الله للأمة بأن ليس لأحد أن يكلف أحداً إلاّ بما يستطيعه، وذلك أيضاً وعد من الله بأنه لا يكلف في التشريع الإسلامي إلاّ بما يستطاع: في العامة والخاصة، فقد قال في آيات ختام هذه السورة {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]. والآية تدل على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في شريعة الإسلام، وسيأتي تفصيل هذه المسألة عند قوله تعالى: {لا يكلفو الله نفساً إلا وسعها} في آخر السورة. وجملة {لا تضار والدة بولدها} اعتراض ثان، ولم تعطف على التي قبلها تنبيهاً على أنها مقصودة لذاتها، فإنها تشريع مستقل، وليس فيها معنى التعليل الذي في الجملة قبلها بل هي كالتفريع على جملة {لا تكلف نفس إلا وسعها}؛ لأن إدخال الضر على أحد بسبب ما هو بضعة منه، يكاد يخرج عن طاقة الإنسان؛ لأن الضرار تضيق عنه الطاقة، وكونه بسبب من يترقب منه أن يكون سبب نفع أشد ألماً على النفس، فكان ضره أشد. ولذلك اختير لفظ الوالدة هنا دون الأم كما تقدم في قوله: {يرضعن أولادهن} وكذلك القول في {ولا مولود له بولده} وهذا الحكم عام في جميع الأحوال من فراق أو دوام عصمة، فهو كالتذييل، وهو نهي لهما عن أن يكلف أحدهما الآخر ما هو فوق طاقته، ويستغل ما يعلمه من شفقة الآخر على ولده فيفترص ذلك لإحراجه، والإشفاق عليه. وفي «المدونة»: عن ابن وهب عن الليث عن خالد بن يزيد عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها} الآية «يقول ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه، وليس له أن ينتزع منها ولدها، وهي تحب أن ترضعه» وهو يؤيد ما ذكرناه. وقيل: الباء في قوله: {بولدها وبولده} باء الإلصاق وهي لتعدية {تضار} فيكون مدخول الباء مفعولاً في المعنى لفعل {تضار} وهو مسلوب المفاعلة مراد منه أصل الضر، فيصير المعنى: لا تضر الوالدة ولدها ولا المولود له ولده أي لا يكن أحد الأبويين بتعنته وتحريجه سبباً في إلحاق الضر بولده أي سبباً في إلجاء الآخر إلى الامتناع مما يعين على إرضاع الأم ولدها فيكون في استرضاع غير الأم تعريض المولود إلى الضر ونحو هذا من أنواع التفريط. وقرأ الجمهور: (لا تضار) بفتح الراء مشددة على أن (لا) حرف نهي و(تضار) مجزوم بلا الناهية والفتحة للتخلص من التقاء الساكنين الذي نشأ عن تسكين الراء الأولى ليتأتى الإدغام وتسكين الراء الثانية للجزم وحرك بالفتحة لأنها أخف الحركات. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الراء على أن (لا) حرف نفي والكلام خبر في معنى النهي، وكلتا القراءتين يجوز أن تكون على نية بناء الفعل للفاعل بتقدير: لا (تضارر) بكسر الراء الأولى وبنائه للنائب بتقدير فتح الراء الأولى، وقرأه أبو جعفر بسكون الراء مخففة مع إشباع المد كذا نقل عنه في كتاب «القراءات» والظاهر أنه جعله من ضار يضير لا من ضار المضاعف. ووقع في «الكشاف» أنه قرأ بالسكون مع التشديد على نية الوقف أي إجراء للوصل مجرى الوقف ولذلك اغتفر التقاء الساكنين. وقوله: {وعلى الوارث مثل ذلك} معطوف على قوله: {وعلى المولود له رزقهن} وليس معطوفاً على جملة {لا تضار والدة} لأن جملة {لا تضار} معترضة، فإنها جاءت على الأسلوب الذي جاءت عليه جملة {لا تكلف نفس إلا وسعها} التي هي معترضة بين الأحكام لا محالة لوقوعها موقع الاستئناف من قوله {بالمعروف}، ولما جاءت جملة {لا تضار} بدون عطف علمنا أنها استئناف ثان مما قبله ثم وقع الرجوع إلى بيان الأحكام بطريق العطف، ولو كان المراد العطف على المستأنفات المعترضات لجيء بالجملة الثالثة بطريق الاستئناف. وحقيقة الوارث هو من يصير إليه مال الميت بعد الموت بحق الإرث. والإشارة بقوله {ذلك} إلى الحكم المتقدم وهو الرزق والكسوة بقرينة دخول على عليه الدالة على أنه عديل لقوله: {وعلى المولود له رزقهن} وجوز أن يكون {ذلك} إشارة إلى النهي عن الإضرار المستفاد من قوله: {لا تضار والدة بولدها} كما سيأتي، وهو بعيد عن الاستعمال؛ لأنه لما كان الفاعل محذوفاً وحكم الفعل في سياق النهي كما هو في سياق النفي علم أن جميع الإضرار منهي عنه أياً ما كان فاعله، على أن الإضرار منهي عنه فلا يحسن التعبير عنه بلفظ على الذي هو من صيغ الإلزام والإيجاب، على أن ظاهر المِثل إنما ينصرف لمماثلة الذوات وهي النفقة والكسوة لا لمماثلة الحكم وهو التحريم. وقد علم من تسمية المفروض عليه الإنفاق والكسوة وارثاً أن الذي كان ذلك عليه مات، وهذا إيجاز. والمعنى: فإن مات المولود له فعلى وارثه مثل ما كان عليه فإن على الواقعة بعد حرف العطف هنا ظاهرة في أنها مثل على التي في المعطوف عليه. فالظاهر أن المراد وارث الأب وتكون أل عوضاً عن المضاف إليه كما هو الشأن في دخول أل على اسم غير معهود ولا مقصود جنسه وكان ذلك الاسم مذكوراً بعد اسم يصلح لأن يضاف إليه كما قال تعالى: {لئن لم ينته لنسفعا بالناصية} [العلق: 15] وكما قال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 40 41] أي نهى نفسه؛ فإن الجنة هي مأواه، وقول إحدى نساء حديث أم زرع: «زوجي المَسُّ مَسُّ أَرْنَب والرِّيح رِيح زَرْنَب» وما سماه الله تعالى وارثاً إلاّ لأنه وارث بالفعل لا من يصلح لأن يكون وارثاً على تقدير موت غيره؛ لأن اسم الفاعل إنما يطلق على الحال ما لم تقم قرينة على خلافه فما قال: {وعلى الوارث} إلاّ لأن الكلام على الحق تعليق بهذا الشخص في تركة الميت وإلاّ لقال: وعلى الأقارب أو الأولياء مثل ذلك على أنه يكون كلاماً تأكيداً حينئذٍ؛ لأن تحريم الإضرار المذكور قبله لم يذكر له متعلق خاص؛ فإن فاعل {تضار} محذوف. والنهي دال على منع كل إضرار يحصل للوالدة فما فائدة إعادة تحريم ذلك على الوارث كما قدمناه آنفاً. واتفق علماء الإسلام على أن ظاهر الآية غير مراد؛ إذ لا قائل بوجوب نفقة المرضع على وارث الأب، سواء كان إيجابها على الوارث في المال الموروث بأن تكون مبدأة على المواريث للإجماع على أنه لا يبدأ إلاّ بالتجهيز ثم الدين ثم الوصية، ولأن الرضيع له حظه في المال المرورث وهو إذا صار ذا مال لم تجب نفقته على غيره أم كان إيجابها على الوارث لو لم يسعها المال الموروث فيكمِّل من يده، ولذلك طرقوا في هذا باب التأويل إما تأويل معنى الوارث وإما تأويل مرجع الإشارة وإما كليهما. فقال الجمهور: المراد وارث الطفل أي من لو مات الطفل لورثه هو، روي عن عمر بن الخطاب وقتادة والسدي والحسن ومجاهد وعطاء وإسحاق وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل فيتقرر بالآية، أن النفقة واجبة على قرابة الرضيع وهم بالضرورة قرابة أبيه أي إذا مات أبوه ولم يترك مالاً: تجب نفقة الرضيع على الأقارب. على حسب قربهم في الإرث ويجري ذلك على الخلاف في توريث ذي الرحم المَحْرَم فهؤلاء يرون حقاً على القرابة إنفاق العاجز في مالهم كما أنهم يرثونه إذا ترك مالاً فهو من المواساة الواجبة مثل الدية. وقال الضحاك وقبيصة بن ذؤيب وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز: المراد وارث الأب وأريد به نفس الرضيع. فالمعنى: أنه إذا مات أبوه وترك مالاً فنفقته من إرثه. ويتجه على هذا أن يقال: ما وجه العدول عن التعبير بالولد إلى التعبير بالوارث؟ فتجيب بأنه للإيماء إلى أن الأب إنما وجبت عليه نفقة الرضيع لعدم مال للرضيع، فلهذا لما اكتسب مالاً وجب عليه في ماله؛ لأن غالب أحوال الصغار ألا تكون لهم أموال مكتسبة سوى الميراث، وهذا تأويل بعيد؛ لأن الآية تكون قد تركت حكم من لا مال له. وقيل: أريد بالوارث المعنى المجازي وهو الذي يبقى بعد انعدام غيره كما في قوله تعالى: {ونحن الوارثون} [الحجر: 23] يعني به أم الرضيع قاله سفيان فتكون النفقة على الأم قال التفتازاني في «شرح الكشاف» «وهذا قَلق في هذا المقام إذ ليس لقولنا: فالنفقة على الأب وعلى من بقي من الأب والأم معنى يعتد به» يعني أن إرادة الباقي تشمل صورة ما إذا كان الباقي الأب ولا معنى لِعطفه على نفسه بهذا الاعتبار. وفي «المدونة» عن زيد بن أسلم وربيعة أن الوارث هو ولي الرضيع عليه مثل ما على الأب من عدم المضارة. هذا كله على أن الآية محكمة لا منسوخة وأن المشار إليه بقوله: {مثل ذلك} هو الرزق والكسوة. وقال جماعة: الإشارة بقوله: {مثل ذلك} راجعة إلى النهي عن المشارة. قال ابن عطية: وهو لمالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك اه. وفي «المدونة» في ترجمة ما جاء فيمن تلزم النفقة من كتاب إرخاء الستور عن ابن القاسم قال مالك {وعلى الوارث مثل ذلك} أي ألا يضار. واختاره ابن العربي بأنه الأصل فقال القرطبي: يعني في الرجوع إلى أقرب مذكور، ورجحه ابن عطية بأن الأمة أجمعت على ألا يضار الوارث. واختلفوا: هل عليه رزق وكسوة اه يعني مورد الآية بما هو مجمع على حكمه ويترك ما فيه الخلاف. وهنالك تأويل بأنها منسوخة، رواه أسد بن الفرات عن ابن القاسم عن مالك قال: «وقول الله عز وجل: {وعلى الوارث مثل ذلك} هو منسوخ فقال النحاس: «ما علمت أحداً من أصحاب مالك بين ما الناسخ، والذي يبينه أن يكون الناسخ لها عند مالك أنه لما أوجب الله للمتوفى عنها زوجها نفقةَ حول، والسكنى من مال المتوفى، ثم نسخ ذلك نسخ أيضاً عن الوارث» يريد أن الله لما نسخ وجوب ذلك في تركة الميت نسخ كل حق في التركة بعد الميراث، فيكون الناسخ هو الميراث، فإنه نسخ كل حق في المال على أولياء الميت. وعندي أن التأويل الذي في «مدونة سحنون» بعيد لما تقدم آنفاً، وأن ما نحاه مالك في رواية أسد بن الفرات عن ابن القاسم هو التأويل الصحيح، وأن النسخ على ظاهر المراد منه، والناسخ لهذا الحكم هو إجماع الأمة على أنه لاحق في مال الميت، بعد جهازه وقضاء دينه، وتنفيذ وصيته، إلاّ الميراث فنُسخ بذلك كل ما كان مأموراً به أن يدفع من مال الميت مثل الوصية في قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين} [البقرة: 180] الآية، ومثل الوصية بسكنى الزوجة وإنفاقها في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم يتربصن بأنفسهن} [البقرة: 240] ونسخ منه حكم هذه الآية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث» هذا إذا حمل الوارث في الآية على وارث الميت أي إن ذلك حق على جميع الورثة أيّاً كانوا بمعنى أنه مبدأ المواريث. وإذا حمل الوارث على من هو بحيث يرث الميت لو ترك الميت مالاً، أعني قريبه، بمعنى أن عليه إنفاق ابن قريبه، فذلك منسوخ بوضع بيت المال وذلك أن هذه الآية شرعت هذا الحكم في وقت ضعف المسلمين، لإقامة أود نظامهم بتربية أطفال فقرائهم، وكان أولى المسلمين بذلك أقربهم من الطفل فكما كان يرث قريبه، لو ترك مالاً ولم يترك ولداً فكذلك عليه أن يقام ببينة، كما كان حكم القبيلة في الجاهلية في ضم أيتامهم ودفع دياتهم، فلما اعتز الإسلام صار لجامعة المسلمين مال، كان حقاً على جماعة المسلمين القيام بتربية أبناء فقرائهم، وفي الحديث الصحيح «من ترك كَّلاً، أو ضياعاً، فعليَّ، ومن ترك مالاً فلوارثه» ولا فرق بين إطعام الفقير وبين إرضاعه، وما هو إلاّ نفقة، ولمثله وضع بيت المال. وقوله: {فإنأراد فصالاً} عطف على قوله {يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} لأنه متفرع عنه، والضمير عائد على الوالدة والمولود له الواقعين في الجمل قبْل هذه. والفصال: الفطام عن الإرضاع، لأنه فصل عن ثدي مرضعه. وعن في قوله: {عن تراض} متعلقة بأرادا أي إرادة ناشئة عن التراضي، إذ قد تكون إرادتهما صورية أو يكون أحدهما في نفس الأمر مرغماً على الإرادة، بخوف أو اضطرار. وقوله: {وتشاور} هو مصدر شاور إذا طلب المشورة. والمشورة قيل مشتقة من الإشارة لأن كل واحد من المتشاورين يشير بما يراه نافعاً فلذلك يقول المستشير لمن يستشيره: بماذا تشير عليَّ كأنَّ أصله أنه يشير للأمر الذي فيه النفع، مشتق من الإشارة باليد، لأن الناصح المدبر كالذي يشير إلى الصواب ويعينه له من لم يهتد إليه، ثم عدي بعلى لما ضمن معنى التدبير، وقال الراغب: إنها مشتقة من شار العسل إذا استخرجه، وأياً ما كان اشتقاقها فمعناها إبداء الرأي في عمل يريد أن يعمله من يشاور وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] وسيجيء الكلام عليها عند قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} في سورة آل عمران (159)، وعطف التشاور على التراضي تعليماً للزوجين شؤون تدبير العائلة، فإن التشاور يظهر الصواب ويحصل به التراضي. وأفاد بقوله: فلا جناح عليهما} أن ذلك مباح، وأن حق إرضاع الحولين مراعى فيه حق الأبوين وحق الرضيع، ولما كان ذلك يختلف باختلاف أمزجة الرضعاء جعل اختلاف الأبوين دليلاً على توقع حاجة الطفل إلى زيادة الرضاع، فأعمل قول طالب الزيادة منهما، كما تقدم، فإذا تشاور الأبوان وتراضيا بعد ذلك على الفصال كان تراضيهما دليلاً على أنهما رأيا من حال الرضيع ما يغنيه عن الزيادة، إذ لا يظن بهما التمالؤ على ضر الولد، ولا يظن إخفاء المصلحة عليهما بعد تشاورهما، إذ لا يخفى عليهما حال ولدهما. وقوله: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم} انتقال إلى حالة إرضاع الطفل غيرَ والدته إذا تعذر على الوالدة إرضاعه، لمرضها، أو تزوجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء، كما تقدم في الآية السابقة، أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم فلا إثم في ذلك. والمخاطب بأردتم: الأبوان باعتبار تعدد الأبوين في الأمة وليس المخاطب خصوص الرجال، لقوله تعالى فيما سبق {والوالدات يرضعن أولادهن} فعلم السامع أن هذا الحكم خاص بحالة تراضي الأبوين على ذلك لعذر الأم، وبحالة فقد الأم. وقد علم من قوله: {فلا جناح عليكم} أن حالة التراضي هي المقصودة أولاً، لأن نفي الجناح مؤذن بتوقعه، وإنما يتوقع ذلك إذا كانت الأم موجودة وأريد صرف الابن عنها إلى مرضع أخرى، لسبب مصطلح عليه، وهما لا يريدان ذلك إلاّ حيث يتحقق عدم الضر للابن، فلو علم ضر الولد لم يجز، وقد كانت العرب تسترضع لأولادها، لا سيما أهل الشرف. وفي الحديث " واسْتُرضِعْت في بني سعد ". والاسترضاع أصله طلب إرضاع الطفل، أي طلب أن ترضع الطفل غير أمه، فالسين والتاء في (تسترضعوا) للطلب ومفعوله محذوف، وأصله أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، لأن الفعل يعدَّى بالسين والتاء الدالين على الطلب إلى المفعول المطلوب منه الفعل فلا يتعدى إلاّ إلى مفعول واحد، وما بعده يعدى إليه بالحرف وقد يحذف الحرف لكثرة الاستعمال، كما حذف في استرضع واستنجح، فعدي الفعل إلى المجرور على الحذف والإيصال، وفي الحديث " واسترضعت في بني سعد " ووقع في «الكشاف» ما يقتضي أن السين والتاء دخلتا على الفعل المهموز المتعدي إلى واحد فزادتاه تعدية لثان، وأصله أرضعت المرأة الولد، فإذا قلت: استرضعتُها صار متعدياً إلى مفعولين، وكأنَّ وجهه أننا ننظر إلى الحدث المراد طلبه، فإن كان حدثاً قاصراً، فدخلت عليه السين والتاء، عدي إلى مفعول واحد، نحو استنهضته فنهض، وإن كان متعدياً فدخلت عليه السين والتاء عدي إلى مفعولين، نحو استرضعتها فأرضعت، والتعويل على القرينة، إذ لا يطلب أصل الرضاع لا من الولد ولا من الأم، وكذا: استنجحت الله سعيي، إذ لا يطلب من الله إلاّ إنجاح السعي، ولا معنى لطلب نجاح الله، فبقطع النظر عن كون الفعل تعدى إلى مفعولين، أو إلى الثاني بحذف الحرف، نرى أنه لا معنى لتسلط الطلب على الفعل هنا أصلاً، على أنه لولا هذا الاعتبار، لتعذر طلب وقوع الفعل المتعدي بالسين والتاء، وهو قد يطلب حصوله فما أوردوه على «الكشاف»: من أن حروف الزيادة إنما تدخل على المجرد لا المزيد مدفوع بأن حروف الزيادة إذا تكررت، وكانت لمعان مختلفة جاز اعتبار بعضها داخلاً بعد بعض، وإن كان مدخولها كلِّها هو الفعل المجرد. وقد دل قوله: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم} على أنه ليس المراد بقوله {يرضعن} تشريع وجوب الإرضاع على الأمهات، بل المقصود تحديد مدة الإرضاع وواجبات المرضع على الأب، وأما إرضاع الأمهات فموكول إلى ما تعارفه الناس، فالمرأة التي في العصمة، إذا كان مثلها يُرضع، يعتبر إرضاعها أولادها من حقوق الزوج عليها في العصمة، إذ العرف كالشرط، والمرأة المطلقة لا حق لزوجها عليها، فلا ترضع له إلاّ باختيارها. ما لم يعرض في الحالين مانع أو موجب، مثل عجز المرأة في العصمة عن الإرضاع لمرض، ومثل امتناع الصبي من رضاع غيرها، إذا كانت مطلقة بحيث يخشى عليه، والمرأة التي لا يرضع مثلها وهي ذات القدر، قد علم الزوج حينما تزوجها أن مثلها لا يرضع، فلم يكن له عليها حق الإرضاع. هذا قول مالك، إذ العرف كالشرط، وقد كان ذلك عرفاً من قبل الإسلام وتقرر في الإسلام، وقد جرى في كلام المالكية في كتب الأصول: أن مالكاً خصص عموم الوالدات بغير ذوات القدر، وأن المخصص هو العرف، وكنا نتابعهم على ذلك ولكني الآن لا أرى ذلك متجهاً ولا أرى مالكاً عمد إلى التخصيص أصلاً، لأن الآية غير مسوقة لإيجاب الإرضاع، كما تقدم. وقوله: {إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} أي إذا سلمتم إلى المراضع أجورهن. فالمراد بما آتيتم: الأجر، ومعنى آتى في الأصل دفع؛ لأنه معدى أتى بمعنى وصل، ولما كان أصل إذا أن يكون ظرفاً للمستقبل مضمناً معنى الشرط، لم يلتئم أن يكون مع فعل {آتيتم} الماضي. وتأول في «الكشاف» {آتيتم} بمعنى: أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] تبعاً لقوله: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم}، والمعنى: إذا سلمتم أجور المراضع بالمعروف، دون إجحاف ولا مطل. وقرأ ابن كثير {أتيتم} بترك همزة التعدية. فالمعنى عليه: إذا سلمتم ما جئتم، أي ما قصدتم، فالإتيان حينئذٍ مجاز عن القصد، كقوله تعالى: {إذ جاء ربه بقلب سليم} [الصافات: 84] وقال زهير: وما كان من خير أَتوه فإنما *** توارثَه آباءُ آبائِهم قَبْلُ وقوله: {واتقوا الله} تذييل للتخويف، والحث على مراقبة ما شرع الله، من غير محاولة ولا مكابدة، وقوله: {واعلموا أن الله} تذكير لهم بذلك، وإلاّ فقد علموه. وقد تقدم نظيره آنفاً.
|